كيف نحلم باليابان!…اليابانيون كيف ولماذا؟  (الجزء التاسع)  اليابانيون و"رحلة الموت" تأملات في مشهد النهاية لفيلم الساموراي الأخير

 تشيع في معظم لغات البشر صور من التعبيرات ذات الطابع الاصطلاحي أو المجازي، منها ما يندرج تحت التعبير السياقي أو المتلازمات اللفظية ، ومنها ما يدخل في إطار التعبير الاصطلاحي .
وفي الواقع فمن أهتم بهذا النوع من التعبيرات ليس بالكثير من علماء اللغة العربية وبالأخص في مجال علم اللغة المقارن ، وذلك من من خلال ما نجده من قلة الأبحاث والدراسات المقارنة للتعبيرات الاصطلاحية للغة العربية  مع اللغات الاخرى.

وترجع أهمية الصورة المجازية في هذا الشأن إلى أنها توجد بشكل خفي وغير ظاهر داخل لغة الحياة اليومية ، مما يجعلها  تلعب دورا هام  في دفع القدرة على فهم واستيعاب المفاهيم الانسانية المجردة أمثال مفاهيم ((الموت)) و((الحب)) و((الوقت)) المطروحة في هذه الدراسة . وعلى الرغم من كثرة وجود هذا النوع من التعبيرات الاصطلاحية المعبرة عن مفاهيم مجردة مثل الموت والحب والوقت ، الى إنه قد تبين لنا من خلال عدد من الابحاث والدراسات التي قمنا بها منذ عدة سنوات، أن تلك التعابير تتكون من خلال آلية تقوم على اندماج أو تجمع لعدد معين ومحدود من الصور الذهنية يسفر عنه في النهاية ظهور للصطلاح التعبيري المجازي أو الاستعاري في حياتنا اليومية  .لذا فعندما نأتي و نتحدث عن تحديد خصائص لتعبير اصطلاحي بعينه فعلينا أن نتطرق لمستويين من المستويات المعيارية ، الا وهما المستوى الخاص بالمعنى اللغوي الدلالي والمستوى الاخر الخاص بالمعنى الذهني لهذا التعبير .كما يجب أن ننتبه أنه يوجد نوعان من الصور الذهنية المحددة للصور المجازية والاستعارية للتعبيرات الاصطلاحية ، نوعاً يندرج تحت مسمى الصور الذهنية المشتركة لكافة البشر ونوع اخر يندرج تحت مسمى الصور الذهنية الخاصة بلغة ما أو مجتمع لغوي ما بعينه يميزه عن غيره من اللغات او المجتمعات الاخرى.

تُرى ما السبب في أننا عندما نسمع تعبيراً إطلاحياً في اللغة اليابانية مثل “كلانا مربوط بخيط أحمر”؛ سرعان ما يتبادر لكل من يسمع هذا التعبير هو أن “طرفين لا يعرف كلاهما الآخر يخفي لهما القدر رباطاً يصلهما ببعضهما”.
كواحد من الأسباب المحتملة لتفسير هذا الفهم المشترك؛ أن كل انسان يملك مخزونا في عقله من اللغة اليومية تحمل تفسيرا لمثل هذه التعبيرات الاصطلاحية بما تشير إليه من مفاهيم ورؤى مختلفة، لذلك نستطيع أن نفهما ونملك القدرة لاختيار المناسب منها للتعبير عما نريد.

“الموت” مفهوم واسع النطاق ولكي نستطيع فهم التعبيرات الاصطلاحية التي تعبر عن هذ المفهوم فهما صحيحا؛ علينا أولا أن ندرك كيف يرتبط مفهوم الموت بتلك الاستعارات (أو الميتافور) المستخدمة في هذه التعبيرات الاصطلاحية.
هناك العديد من التعبيرات الاصطلاحية التي تعبر عن مفهوم “الموت” وتستخدم كم لا حصر له من الاستعارات والتي تتنوع لتعبر عن جوانب عديدة من هذا المفهوم فتضع له تفسيرا ما أو رؤية ما في ماهيته.

ولكي نتعرف على كيفية فهم اليابانيون لفكرة “الموت” فلا شك أن الاغتراف من منابع الثقافة اليابانية المتمثلة في “المجموعات الشعرية ومعاجم التعبيرات الاصطلاحية والأقوال المأثورة وكذلك الأمثال الشعبية” سيكون وسيلة فعالة. فنحن على سبيل المثال لا الحصر نجد تعبيرات اصطلاحية في اليابانية للتعبير عن “الموت” كما يلي:
(1) غادر عالمنا ؛ (2) رحل إلى عالم آخر؛ (3) شد الرحيل؛
(4) ذهب بلا عودة؛ (5) مسافرا بلا عودة؛
(6) اصبح ضيفا بلا عودة؛ (7)خلد إلى النوم الأبدي؛ (8) نام النوم الطويل؛
(9) تساقطت البتلات؛ (10) أغمض جفنيه؛ (11)زهقت روحه

الموت رحلة!

“ذهب بلا عودة”؛ “مسافرا بلا عودة”؛ “اصبح ضيفا بلا عودة”؛ نجد الكثير من مثل هذه التعبيرات في اللغة اليابانية والمتأثرة لدرجة كبيرة بالثقافة البوذية. حيث نجد كلمات مثل “رحلة” و”ضيف” تستخدم للتعبير عن الموت، فتشبه الموت بـ”الرحلة” والانسان (أو المتوفى) يشد إليها الرحال. لكن الفارق كما هو واضح من التعبيرات السابقة أن هذه الرحلة هي انتقال بذهاب لا عودة منه. ويفهم من هذه التعبيرات عبر الاستعارات المستخدمة أن “الموت” هو انطلاق وانتقال منتهاه إلى وضع المستقر. وذلك المستقر الذي تشير إليه التعبيرات يختلف وفقا للثقافة؛ ففي البوذية المستقر هو “أرض الجنان”، وفي الإسلام هو عالم الخلد الذي يحدد رب العالمين؛ وفي المسيحية هو “الملكوت السماوي” حيث المسيح.

الموت “تساقطت بتلات الزهرة”!
منذ فترة قريبة أُتيحت لي الفرصة أن أشاهد الفيلم الشهير “السموراي الأخير”؛ مما جعلني أتأمل في تفاصيل هذا العمل الفني من الجانبين اللغوي والثقافي. ورغم أنني قد شهدت هذا العمل أكثر مرة في فترات سابقة؛ لكن في هذه المرة استوقفني مشهد موت بطل العمل وهو يسقبل لحظاته الأخيرة في هذا العالم محاولا إخفاء آلآم سكرات الموت بينم تنعكس في مقلتيه صورة لبتلات زهرة الكرز وهي تتساقط؛ في صورة تعبيرية تعكس جانبا من النظرة اليابانية لمفهوم الموت ، مما جعلني أتذكر خواطر دونتها في كتاب عن التعبيرات الاصطلاحية في اللغة اليابانية قبل عدة أعوام. وفيها ذكرت ما يلي عن تعبير “تساقطت البتلات” كواحد من التعبيرات المستخدمة للإشارة إلى “الموت”.
التعبير الاصطلاحي “تساقطت البتلات” والذي يشير إلى “الموت”؛ من التعبيرات التي تُصنف بالاستعارات “أو الميتافور” التخيلي التصويري؛ وهذا من الاستعارت التي تختص بها اللغة اليابانية. ولهذا التعبير دلالاتين؛ الأولى “سقوط بتلات الزهرة متناثرة” وهي أقرب لتكون دلالة حرفية. أما الثانية هي الدلالة الاصطلاحية وتعني “الموت في أرض المعركة”. وفي الدلالاتين نجد التخيل التصويري لمشهد “التساقط متناثرا” عاملا مشتركاً.
وهذا تعبير تصويري لحالة نفسية فريدة للحظات تسبق الموت.

فنجد هنا تشبيه تصويري للحظة سقوط محارب قتيلا ومفارقة الروح للجسد في أرض المعركة بتساقط بتلات زهرة الكرز متناثرة على الأرض. وهذا نوع من التعبير التصويري لا يعتمد على مفردات اللغة بقدر اعتماده على الحس ومستوى الإدراك للشخصية اليابانية.
هذا التعبير يكثر استخدمه في مواقف تحمل معنى “السقوط قتيلا في معركة؛ ومفارقة الحياة في طهرٍ من الدنس” حيث يشبِّه حياة الإنسان ببتلات زهرة الكرز؛ فيجعل الإنسان كأنه زهرة لتصوير حياة من خرج ليحارب بشكل جمالي؛ فتكون الاستعارة التصويرية التخيلية رابطة بين حياة من سقط قتيلا في معركة ودورة حياة الزهرة. وهنا نجد ذلك التصوير المرهف الحس لمفهوم الموت في تخصيص زهرة الكرز دون أي زهرة أخرى لخصوصية تلك الزهرة في مشهد تساقط بتلاتها متناثرة في شكل درامي مؤثر.

في السنوات الأخيرة قد نجد بعض الزهور الأخرى تحل محل زهر الكرز في الرسمات التي تعبر عن هذا التعبير الإصطلاحي مثل زهرة الورد العربي (أو الشامي) أو زهرة الكاميليا ، فالشخصية اليابانية لها شغف لا حدود له بالزهور بشكل عام. ولن أكون مبالغا إذا ما قلت أن الزهور في طبيعة الشخصية اليابانية هي مرادفا لمفاهيم “الفناء” و”النُبل” وكذلك “الأناقة”.
وإن كانت هناك أعمال أدبية كثيرة تنتمي أدب عصر “شوا” وأيضا أدب فترة ما خلال الحرب؛ قد أستخدمت زهرة الكرز”يوشينو” لتكون مرادفا لمفهوم الموت كنوع من الدعاية. (إلى حلقة قادمة)

Leave a Reply

メールアドレスが公開されることはありません。 * が付いている欄は必須項目です