كيف نحلم باليابان ! … اليابانيون.. كيف ولماذا؟ الجزء الخامس
كيف تُبنى العلاقة مع الآخر في المجتمع الياباني؟
وأعود هنا بسؤالي مرة أخرى لأبحث كيف تُبنى العلاقة مع الآخر في المجتمع الياباني؟ في اليابان، تُبنى العلاقة مع الآخر من منطلق قانون الجماعة الذي يحدد حدود العلاقة الاجتماعية والشخصية مع الآخر من خلال معيار مدى انتساب الفرد إلى هذه المجموعة أو تلك المنظومة، حيث يتم تصنيفه كواحد منهم أو خارج عنهم، وباصطلاح آخر كـ”عضو أو عنصر داخلي” أو عدم انتسابه له كـ”عضو أو عنصر خارجي”، وذلك تحت اسم مفهوم علاقة الترابط الجماعي فيما يُعرف في المجتمع الياباني بالـ”(uchi) داخل الجماعة” و”(soto)خارج الجماعة”.
وهنا، يصبح لعنصر “المكان ” دور هام في تحديد هذه العلاقة الاجتماعية القائمة مع الآخر، وهل هى علاقة (uchi) أي أحد أفراد المنظومة؟ أم أنه (soto) أي خارج أفراد المنظومة؟ وعليه يصبح مفهوم الآخر هنا هو الشخص الذي تجمعك به العلاقة الاجتماعية المتبادلة بين أطراف المكان الواحد أو بمعنى آخر أطراف المنظومة الاجتماعية الواحدة العاملة وفق نمط مكاني محدد.
فزميل العمل الذي تجمعك به علاقة الانتماء إلى المنظومة يصبح بالنسبة لك uchi (عضو جماعة)، أي فرد قريب لك تستطيع أن تتحدث معه وتفصح له عن أفكارك ومشاعرك في إطار العلاقة الجماعية والمكانية التي تربطكما بشكل مباشر معاً، وسكّان القرية الواحدة أو مواطنو المدينة والبلد الواحد يصبحون من هذا المنطلق والمعيار ينتمون إلى المكان نفسه أو إلى المنظومة نفسها.
وعلى هذا النحو، يصبح “الأجنبي” خارج دائرة الانتساب إلى هذا المكان المشترك (القرية أو البلد أو الدولة )، ويصبح من خارج المكان أي ( Soto)، والكلمة اليابانية “gaikokujin شخص من خارج البلد” أي “أجنبي” هي خير معبّر عن ذَلِك.
أي إن دائرة العلاقات الاجتماعية في اليابان تدور حول تحديد مسافة الفرد الاجتماعية ودرجة انتسابه إلى المنظومة التي يعمل بها أو التي يتعامل معها؛ وهل هو منها أو أنه من خارجها.
وهكذا وعلى هذا النحو، تجد لمعيار الانتساب الجماعي الـ(uchi) الداخل و(soto) الخارج تأثير غير عادي على تشكيل الكثير من علاقات الناس بعضها ببعض، امتداداً إلى تشكيل علاقات العمل والترابط الاجتماعي بفئات ومؤسسات المجتمع المختلفة.
وهنا تجد الأجنبي خارج دائرة الضوء فهو ليس عضواً بجماعة دائمة؛ ففي الصباح هو عضو عامل بجماعة الشركة التي يعمل بها أو المؤسسة التي ينتسب إليها، وهنا يتم التعامل معه على نفس ميزان باقي زملاء العمل الذي يجمعهم مكان واحد وأهداف مشتركة مثل مسؤولية مهام العمل الواحد.
أما في المساء وبعد انتهاء دائرة العمل المشترك هنا، ينفصل الناس وتنفصل العلاقات فيصبح الأجنبي بدوره عضواً خارجياً لا ينتسب إلى ثقافة هذا البلد أو تكوينه الاجتماعي، ومن ثم يتم التعامل معه كضيف وافد على هذه الثقافة فيكون له العذر أو الحق في عدم معرفة أو إدراك الكثير من الأمور الخاصة بالمجتمع.
وهنا تجد الأجنبي خارج دائرة الضوء، فهو ليس عضواً بجماعة دائمة، ففي الصباح هو عضو عامل بجماعة الشركة التي يعمل بها أو المؤسسة التي ينتسب إليها، وهنا يتم التعامل معه على نفس ميزان باقي زملاء العمل الذي يجمعهم مكان واحد وأهداف مشتركة مثل مسؤولية مهام العمل الواحد.
أما في المساء وبعد انتهاء دائرة العمل المشترك، هنا ينفصل الناس وتنفصل العلاقات، فيصبح الأجنبي بدوره عضواً خارجياً لا ينتسب إلى ثقافة هذا البلد أو تكوينه الاجتماعي؛ ومن ثم يتم التعامل معه كضيف وافد على هذه الثقافة فيكون له العذر أو الحق في عدم معرفة أو إدراك الكثير من الأمور الخاصة بالمجتمع.
لكن المشكلة هنا تكمن في كيفية تقبُّل الأجنبي هذا النمط السلوكي المتبع في مشاهد الحياة كافة المختلفة من حوله؛ فمثلاً لو تخليت معي أنك تعيش في اليابان مدة عقدين أو 3 عقود من الزمان، وها وقد خيل لك أنك أصبحت واحداً من أفراد المجتمع الياباني؛ أي بمعنى الـ”uchi”، فتجد نفسك تتصرف مع من حولك على هذا النحو.
لكن في المقابل، يقابَل هذا بفتور غير عادي ممن حولك، فتجد الناس تعاملك كشخص غريب كما لو كنت وافداً منذ عدة أيّام؛ فتحدثهم باليابانية فيردون عليك بالإنكليزية ذات الطابع الياباني! أو قد تجد من يتجاهلك أحياناً بهاجس أنك غريب عنه ولا يعرف كيف يتعامل معك، وهنا قد تجده لا يبادلك التحية والسلام أو غيرها من السلوكيات السلبية الأخرى التي تجد فيها نوعاً من أنماط الإقصاء والتهميش الاجتماعي التي بدورها تعزلك عن المجتمع… نعم، ولم لا! فهو يتعامل معك كـ”soto”؛ أي كعضو أو عنصر خارجي لا ينتسب إلى المجتمع الياباني.
لكن حتى نكون منصفين في الطرح، فالحق يقال، إن هذه الظاهرة ليست ظاهرة قاصرة على الأجانب الوافدين من خارج اليابان فقط، ولكن أيضاً تجد هذه الظاهرة الاجتماعية نفسها قائمة وراسخة في مشاهد الحياة اليومية التي يعيشها الفرد الياباني داخل المجتمع.
فهو أيضاً يتبادل الأدوار بين الـ”uchi” الداخل و”soto” الخارج؛ فتجده تارة عنصراً أو عضواً داخلياً، وتارة أخرى عضواً أو عنصراً خارجياً، وذلك حسب مشاهد الحياة المختلفة، لذا تجده دائماً مهموماً بالبحث عن مكان له بين مجموعات وفئات المجتمع المختلفة التي يعيش بينها وداخلها، لكن الفرق الشاسع هنا بينه وبين الأجنبي يكمن في اختلاف نظرة المجتمع الياباني المتباينة تجاههما، والتي من خلالها يتحدد موقعه والمسافة الاجتماعية له في المجتمع، وهل هو عضو داخلي أم عضو خارجي؟ فالحقيقة الراسخة في أذهان اليابانيين هي أن الأجنبي عضو دخيل عليه حتى وإن كان مرحَّباً به بين أفراد المجتمع.
وعلى هذا النحو، تجد الشخصية اليابانية تبحث دائماً لها عن كيان تنتسب إليه؛ لكي تكون جزءاً منه.. وتستطيع أن ترى ذلك بجلاء في الكثير من التجمعات المختلفة داخل المجتمع، مثل تجمعات الأنشطة الرياضية وتجمعات الأنشطة الدراسية والنوادي الطلابية وتجمعات أولياء الأمور وتجمعات أصحاب الأنشطة والهوايات المشتركة، وغيرها من التجمعات الأخرى المتعددة والمتنوعة التي تستطيع أن تراها في مشاهد الحياة المختلفة كافة.. فالياباني لا يستطيع العيش دون الانتساب إلى كيان أو منظومة جماعية يجد بها مكاناً له وقيمة لأداء دور بها.
في النهاية، أودّ أن أؤكد أن ما قمت بطرحه من تحليل وطرح، ليس المقصود به وصف المجتمع الياباني بأنه مجتمع عنصري أو أنه مجتمع يقصي الآخر، ولكن الهدف من طرحي هذا هو إدراك مدى أهمية قضية فهم طبائع الشعوب والمجتمعات؛ حتى يتسنى لنا فهم ذاتنا أولاً ثم إدراك حقيقة الآخر على اختلاف طبائعه؛ لكي يتحقق ما يُعرف بالإدراك الصحيح والمتبادل بين الثقافات والحضارات.
وسواء كان اليوم أو الأمس أو حتى الغد، ففي نهاية المطاف سوف يظل المهاجر يعيش واقعاً وحقيقةً لقدَر يحتم عليه وعلينا أن نعيش غرباء أينما نكون.