كيف نحلم باليابان!…اليابانيون كيف ولماذا؟ الحلقة العاشرة اللغة والادراك والارتباط الشرطي الخفي
منذ فترة ما كانت صحيفة (أساهي) تنشر على صفحاتها كاريكاتير شهير تحت اسم ” جاري , السيد يامادا”، وكنت شغوفا بقراءته دائماً. “وعلى أسوأ الفروض، تصور نفسك مثلاً قد أصبت بمرض السرطان، أو ألم بك حادث سيارة، كيف تتصرف حينئذ؟ ” —- وجدت هذه العبارات في يوم ما مستخدمة على لسان كاركتير لموظف في شركة تأمين ضمن إحدى شخصيات الكاريكاتير الذي تطرقت في الحديث عنه منذ قليل،
وكان الحوار يدور حول دفع والد السيد يامادا للاشتراك في إحدى عروض شركات التأمين. كنت في ذلك الوقت لا أكترث بقضية التأمين على الحياة، إلا أنه في الوقت نفسه لا أستطيع أن أنكر أن هذا الأمر كان يدور في عقلي دائما وكنت أحدث نفسي قائلاً: كما يقول المثل الياباني الشائع “إذا كان لديك ما تستعد به فلا هم ولاحزن يلحق بك “، لذا كان العزم على أن أشترك في أحد العروض المعلنة لشركات التأمين
جاء الرجل يحمل العديد من الأوراق والوثائق المختلفة مسخراً كل طاقته من أجل إقناعي بأهمية الاشتراك في شركة التأمين التابع لها، ثم أخذ يحاورني على النحو التالي: في حالة إصابتك بمرض السرطان، ودخولك المستشفى لتلقى العلاج فسوف تحصل على ما يعادل قيمة كذا وكذا، وكذلك في حالة وقوع حادث سيارة سوف تحصل على المستحقات الآتية كذا وكذا ……… وفي حالة وفاتك….. تحصل على كذا وكذا.
لا شك أن الهدف مما قام به هذا الموظف من شرح – وإن كان على هذا النحو – هو محاولة بث الطمأنينة في قلبي نحو المستقبل. ولكن شرحه الذي امتزج بكلمات الموت والسرطان وحادث السيارة كان وقعه على ذا نتيجة عكسية تماماً، فلقد أصابني شعور بالهم والقلق تجاه المستقبل حتى أصبح أمر الاشتراك في التأمين في حد ذاته أمر غير مرغوب فيه تماما بالنسبة لي.
أعتقد لو أن المتلقي لهذا الشرح شخص ياباني لكان وقع أثره مختلفاً تماماً مقارنة بي، فعلى الأرجح أنه سوف يجد في هذا الشرح الوافي شيئا من السعادة والاطمئنان بما فيه من ضمانات مختلفة ومتنوعة، لكننا سوف نجد الأمر يختلف كثيراً حين يصبح المتلقي شخصا عربيا.
فمن طابع الشخصية العربية أنها لا تميل إلى الإفراط في استخدام الكلمات ذات علاقة بالموت والمرض والمصائب والأحداث المفجعة؛ لاسيما الكلمات ذات الفأل السيئ. ذلك الأمر قد يرجع إلى وجود اعتقاد لا شعوري في أن لبعض الكلمات ارتباطا شرطيا خفيا في مكنون النفس مع سير وقوع الأحداث.
لذا يكثر في المجتمع العربي حين الحديث عن شخص مريض استخدام تعبيرات معينة مثل (متعب) أو(بعافية) – كما هو موجود في العامية المصرية -، أو محاولة تفادي الحديث عن الشخص المريض حتى شفائه ما أمكن ذلك.
على جانب آخر على الرغم من الاختلاف الكبير بين الشخصية العربية المتفائلة دائما والشخصية اليابانية المتشائمة مطلقاً ، إذا تمعنا في حياة الفرد الياباني اليومية، فسوف يتبين لنا مصادفة وجود تشابه فكري في الثقافتين.
وتستطيع أن تلمس ذلك خصوصا من خلال الخطابات التي تلقى بمناسبات العرس والزواج، حيث نجد عادة يابانية تنأى عن استخدام العبارات التي تتضمن كلمات ذات معنى مثل: (العودة) أو (الرجوع) في تلك المناسبات؛ وذلك لما يُعتقد أنها ذات فأل سيئ.
تفترض البحوث التي أجرتها جولي ك. نورم أستاذة علم النفس بكلية ويلسي وجود فئتين عريضتين من التفكير لدى البشر هما: التشاؤم الدفاعي والتفاؤل الاستراتيجي،وكما يتضح من عنوان كتاب نورم ”القوة الإيجابية للتفكير السلبي“، يمكن أن يولد التفكير السلبي طاقة إيجابية.
الأشخاص الذين يعتقدون أنهم قد يفسدون الأمور أو يواجهون عقبات في المستقبل يخططون بعناية ويتجنبون التسبب في فوضى أو متاعب للآخرين بسبب اتخاذ إجراءات عاجلة. إنهم يحوزون على ثقة الآخرين من خلال إدراكهم الشديد لكيفية تأثير أفعالهم على من حولهم.
وبناء عليه، يبدو أن التشاؤم الدفاعي يدعم مثابرة اليابانيين وقدرتهم على التعامل مع الاحداث والامور الحياتية بوعي قائم على اتخاذ الاستعداد والحيطة اللازمة بشكل مسبق ، مع مراعاة التصرف بالحد الأدنى من المخاطرة. وللحديث بقية في الحلقات القادمة إن شاء الله…
季刊アラブ 夏号 2020年 No.172
مجلة العرب ( طوكيو اليابان الجمعية اليابانية العربية ٢٠٢٠ العدد الصيفي)