كيف نحلم باليابان!…اليابانيون.. كيف ولماذا؟ (الجزء السابع)

 ربما يكون أمرا طبيعيا أنني أتذكر تماما تلك الأيام الأولى في اليابان بعد وصولي إلى أراضيها. ولا شك أن هذه الذكريات لا يمحيها مرور الزمن لكونها فترة خاصة في تاريخي الشخصي. ولكن على أي حال كانت طوكيو -بالنسبة لي- في تلك الفترة تملؤها برودة ووحشة شديدتين لن أنساهما طالما حييت. حتى أنني أشعر وكأني أشم رائحة نسمات ذلك اليوم إلى يومنا هذا.

عندما نزلت إلى مطار ناريتا للمرة الأولى ؛ تخيلت أن ناطحات السحاب والمباني العملاقة لطوكيو تنتظرني خارج أبواب المطار. لكن عند خروجي من بوابة المطار لم أجد حولي شيء وكأنني سقطت وسط تلال جبلية. فشعرت بالربكة وظننت أنني قد حللت بالمكان الخطأ.
قد تعجز الكلمات عن التعبير لكني إذا ما حاولت وصف أجواء اليابان في تلك الفترة مستخدما الأحرف اليابانية؛ فلن أجد سوى المقطعين “وحدة” و”وحشة”. مزيج معقد من المشاعر لكنها كانت مشاعر نابضة في تلك الفترة.

“من اليوم عليك أن تخوض الحياة بمفردك”؛ هكذا قلت لنفسي وأنا أستنشق هواء اليابان ؛ محاولا أن لا أترك قلق خوض الحياة الجديدة تفسد فرحة وصولي إلى اليابان.
وما أن بدأت الحياة في اليابان حتى وجدت الوحدة في كل مكان وكأني أبحث عنها؛ أو وكما لو كانت الوحدة تطاردني من كل اتجاه ولا مفر منها.
في المجتمعات العربية إن لم تتوفر ظروف خاصة؛ سيكون من الصعوبة البالغة أن تجد المكان أو الزمان الذي تكون فيه بمفردك. فمن تجرتي الخاصة؛ كنت دائما أنعم بالأصدقاء أو الزملاء حولي سواء في المنزل أو مكان الدراسة أو مكان العمل ولم تكن لي الخبرة على الإطلاق بقضاء الأوقات بمفردي.
كانت الحياة في اليابان فور وصولي غاية في الصعوبة. الدراسة في الصباح والعمل في المساء. طالبا مكافحا ليس لدي المال أو المعارف. فلم يكن أمامي إلا أن أتعلم حكمة المعيشة باليابان بنفسي وقدر استطاعتي.

في البداية أقمت في منزل لعائلة يابانية مقابل 25 ألف ين في الشهر. وعلى قدر معرفتي وقتها كان ذلك أجر زهيد للغاية لم أكن لأحلم به. فبهذا المقابل الزهيد لم أتخطى فقط أصعب ما يقابل أجنبي يأتي للإقامة في اليابان -وهو السكن-؛ بل أيضا مكنني من أن أحصل على ما هو اكبر قيمة وأقصد به الدفىء الأسري. أقمت مع الأسرة اليابانية لمدة جاوزت العام بقليل لكنني شعرت وكأنني أصبح لي عائلة في اليابان.

Monokubo Collection Copyright

كنت اعتقد انني عندما التحق بالجامعة سوف يختلف الأمر عما كنت عليه أثناء الدراسة في معهد تعليم اللغة اليابانية؛ حيث سأكون قادر عمل صداقات عديدة وتزداد فرص استخدام اللغة اليابانية بشكل يومي وعلى مدار اليوم. لم أكن فقط أعتقد ذلك بل كان لدي يقين به؛ فكنت أعد الأيام لبدأ الدراسة في الجامعة متشوقا لتلك الحياة الجديدة.

لكن لم يكن الواقع حالما إلى تلك الدرجة. مرت الأشهر ولم يكن لدي من أستطيع أن أطلق عليه لفظ “صديق”. فبدأت أشعر بالقالق متعجلا أن أحصل على ذلك الصديق؛ فقررت أن أكن إيجابيا وأظهر لك من حولي دعوتي إلى الصداقة وتعطشي لتكوين الصداقات. فستهلكت طاقة للسعي إلى الصداقة لو استخدمتها في مصر لكانت كافية ليكون حولي مائة صديق. أما في اليابان فلم تكن تلك الطاقة ذات جدوى؛ ربما لأن سعي المندفع كان بطريقة عربية صرفة.

لم يأتي سعيي ثماره لأحصل على صديق مقرب بالمفهوم الذي كنت أتصوره سواء في الجامعة أو خارج الجامعة. فربما قد تعرفت على الكثيرين ولكني لم أتمكن من الوصول إلى درجة ما يسمى بالصديق المقرب؛ أو على الأقل ما كنت أتصوره عن الصداقة المقربة. لم أكن حتى أشغل بالي بالتفكير في مثل هذه الأمور عند وجودي في مصر. فهناك -في مصر- لم تكن الصداقة بالشيء الذي تسعى للبحث عنه. حتى أنك تستطيع في مصر تكوين الصداقات أثناء مرورك عابرا في أحد الشوارع.
في احدى المسلسلات اليابانية سمعت مرة ممثلة تقول “إن الأرنب يموت عندما يشعر بالوحدة”؛ عبارة قد يضحك منها الرجل العربي ولا يأخذها على محمل الجد؛ لكنني شعرت بتلك الكلمات وكأنني أنا ذلك “الأرنب الوحيد”.

وتأثرت بتلك العبارة وحدثت نفسي قائلا “يالهول ذلك المجتمع الذي ينهزم فيه الفرد من وحدته”
في المجتمعات العربية تكاد فرص اللقاء أن لا تنقطع؛ وتظل دوائر المعارف تتسع باستمرار دون توقف.وكان لدي الكثير من الأصدقاء؛ أصدقاء من الجيران؛ وأصدقاء الدراسة؛ وأصدقاء من العائلة؛ وكذلك أصدقاء في كل مكان ذهبت إليه في مناسبة ما؛ وغير ذلك من الصداقات. أما في اليابان فلم يكن من السهل أن يصبح لي ولو حتى صديق واحد؛ وهذا كان من المدهشات بالنسبة لي في بداية الأمر. لكني فطنت بعد ذلك أن تلك الصعوبة في تكوين الصداقات ليست بالأمر الغريب في المجتمع الياباني.

في المجتمعات العربية نحن مطالبون باستمرار ومنذ الصغر أن نثبت وجودنا ونعبر عن أنفسنا وسط المجموعة وعلى كافة المستويات. ففي مجتمعاتنا العربية عليك أن تكون مختلفا عن الآخرين وتظهر للآخرين ما تتميز به ؛ حيث إذا كنت لا تختلف عن زميلك فهذا يعني أن زميلك يغني المجموعة عنك فلا حاجة لاثنين بنفس المميزات.

 مقارنة بالعرب الذين يندفعون في عواطفهم؛ ستجد اليابانيون يستطيعون السيطرة على تلك العاطفة وإدارة الأمور بسلاسة. فاليابانيون يستطيعون أن يجدو شكلا لتوحيد إدراكهم ووعيهم بشكل مؤسسي ويتحولون بصورة جماعية نحو هدف محدد. فمن أهم الأساسيات لديهم هو تجنب الانفعالت العاطفية والتوجهات الفردية لتسير المجموعة بخطى متساوية ومحسوبة نحو هدفها.

شعرت بحيرة كون الجميع حولي ينظر إلي بفتور ولا يهتم بأمري وأنا لا أعرف الكثير عن اليابان؛ عانيت كثيرا لكي أتوصل إلى طريقة تمكني من عمل صداقات حقيقية.
في مجتمعاتنا العربية ؛ تستطيع بسهولة؛ ودون أن تتحسب للأمر أن تتصل بأحد الأصدقاء -وقتما شعرت بأنك تحتاج مقابلة صديق- فتقول له “فلنتقابل اليوم!” أو “أين أنت؟ دعنا نتقابل الآن!”. لكن الأمر في اليابان لا يسير بهذه الطريقة.

فهنا في اليابان أن تفكر مليا في ظروف الطرف الآخر قبل الاتصال “ربما لديه عمل الآن ولا يستطيع الرد! قد ازعجه بالاتصال في هذا التوقيت! ربما الأفضل تأجيل الاتصال لوقت لاحق!”؛ وفي المقابل سوف تجد نفسك تفضل أن يفكر الطرف الآخر في ظروفك قبل أن يقوم بالاتصال.
في المجتمعات العربية يقوم الشخص بالاتصل لمجرد رغبته في ذلك. وحين يجد الآخرين لا يتصلون به فيفسر الأمر بسطحية أن الذي لا يتواصل هو فقط لا يود الحديث معه. قد يصعب على الكثيرين في المجتماعات العربية تفسير عدم اتصال الاخر به؛ هو مراعاة لظروفه هو وتفهما لانشغاله وعدم الرغبة في ازعاجه. ففي مجتمعاتنا تجدهم يفضلون أن يتصل بهم الأخرون دون أن يشغلوا بالهم فيما كان من يتصلون به تسمح ظروفه بتلقي الاتصال من عدمه؛ فلو كان مشغولا سيصرح بذلك بوضوح وينهي المكالمة على الفور.
فالقاعدة العربية تقول؛ إبداء بالتحرك ما أن خطرت لك الفكرة؛ وإذا ما حدث أمرا يعوقها فلنفكر وقتها في حل للمشكلة. العرف العام هو أن تعبر عما تشعر به بشكل مباشر.

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *