كيف نحلم باليابان ! … اليابانيون.. كيف ولماذا؟ الجزء السادس

  بأي لون ترسمين الشمس ؟…سؤلا فضولي أنطلق من فمي وأن اتابع ابنتي ذات العشر سنوات وهى منهمكة في تلوين احدى الرسومات… لم يبدُ على أبنتي، أنها أخذت الأمر على محمل الجد، فقط حين حدقت بوجهي لأقل من لحظة، وقبل أن تشغل يداها من جديد باستكمال تلوين رسمها، لم تنس أن تترك لعينيّ شبح ابتسامة صغيرة وهى تقول : ” بالطبع باللون الاحمر يا ابي”… هكذا كانت إجابة إبنتي “بلون” على خلاف اللون الذي طالما استخدمته في تلوين شموس عالمي أثناء صغري بمسقط رأسي مصر . سؤال قد لايستوقفك كثيرا فالإجابة عليه سهلة وبسيطة ولاتحتاج لتدبرالامر من أجل الاجابة عليه …وعلى الرغم من بساطة السؤال الا أن الإجابة عليه تظل محض اختير في بعض الثقافات ، والتي قد تختلف الاجابة عليه من ثقافة لأخرى . فحتى أمام هذا السؤال العابر الذي تجد نفسك ثابتا واثقا دون حيرة في الاجابة عليه قد يصبح محل تسأل ومعيار مقارنة لاختبار مدى الفرقات الثقافية وتنوع واختلاف ادراك الشخصية التي تنتمى لها هذه الثقافة أو تلك .

 وفي حال إن كنت من الذين تربوا ونشئوا في البيئة العربية، فقد تكون اجابتك على الارجح هى ” اللون الأصفر ” أو “اللون الاصفر البرتقالي” ، كما أعتاد الجميع أن يلون في الصغر تأثرا بالصورة الذهنية المعتادة التي نحملها تجاه لون الشمس .

” بالطبع باللون الاحمر يابابا” … هكذا فاجائتني ابنتي باجابتها التلقائية جازمة بان اللون الاحمر هو اللون الانسب للتعبير عن لون الشمس الحقيقي .وبدوري حاولت أن أعرض عليها تصوري بأن لون “الشمس” الفعلي والحقيقي هو اللون ” الاصفر ” وليس الاحمر وإن كان في بعض أطوار التحولات الشمسية كما في وقت الغروب ،يمكن أن يصبح اللون الاحمر أكثر تعبيرا عن اللون الأصفر المعتاد . لكن علامات الدهشة والاستغراب التي ارتسمت على وجهي سرعان ما تحولت إلى ابنتي حين سمعت أن اللون الاصفر يستخدم ـفي بلاد العرب – في التعبير عن لون الشمس ، لكن ما صدمها واصاب دهشتها لم يكن مبعثه أننا نستخدم اللون الاصفر كلون معبرا عن لون لشمس ، بل لان اللون الاصفر بالنسبة لها هو اللون الذي يستخدمه اليابانيون في العادة للتعبير عن لون ” القمر” الفعلي في الرسومات واللوحات الفنية . لذا فاستخدام اللون الاصفر في تلوين الشمس بالنسبة لها يصبح كما لو كأنك ترسم القمر بدلا عن الشمس والعكس صحيح .واقعة مثيرة بالنسبة لي لاسيما   كمتخصص في علوم اللغة وعلى الأخص اللغة اليابانية ، وكانها تجربة فعلية أو دراسة ميدانية تجسدت بها أمامي الكثير مما تعلمته أو أُعلمه الان في الجامعة من علوم اللغة والتواصل الاجتماعي ، فالقاعدة الثابتة في علم اللغة؛ وخاصة مايسمى منه بعلم اللغة الادراكي هو أن “البيئات الثقافية تستطيع أن تؤثر في ادراك الفرد والمجتمع لتختلف الصور والرؤى أحيانا أو تتحد أحيانا حتى تجاه نفس الشيئ المتعارف عليه “

 هنا يطرأ الى ذهني على الفور الترابط الواضح بين لون العلم الياباني بخلفيته البيضاء تتوسطه دائرة حمراء معبرة بذلك عن شروق الشمس في صباح سماء صافية، والذي جاء منه لقب اليابان المعروف باسم بلاد الشمس المشرقة، لكن من منا ـ كعرب ـ استطاع في البداية أن يدرك هذا الترابط في الصورة بين معنى الدائرة الحمراء ولون الشمس المشرقة .

 حديث اليوم عن الألوان والضوء والظل. لكنه ليس حديثا ذو طابعا فني، بل هو حديث نحاول من خلاله إلقاء الضوء على زاوية جديدة من زوايا الشخصية اليابانية، مما قد يساعدنا على تكشف بُعد فريد من ابعاد هويتها الفكرية .

ان كنت من الذين توفرت لهم الفرصة في العيش في اليابان ورؤية المنازل اليابانية -ذات الطابع التقليدي ـ فلابد وان تكون قد شاهدت عيناك ما يعرف بالـ” شوجيshoji”، وهو نوع من الأبواب الخشبية المفرغة بأشكال مربعات مغطاة باوراق “الوشي” اليابانية ،ويُستخدم بشكل رئيسي في تقسيم وفصل الحجر والفراغات عن بعضها البعض داخل المنزل الياباني ذو الطابع التقليدي ، والتي مازال اليابانيون يستخدمنها في بيوتهم حتى يومنا هذا . لكن يبدو ان هذا النوع من فواصل الفراغات الـ”شوجيshoji” باستخداماته المتعددة كأبواب او كنوافذ او حتى كحائط لم يكن دوره فقط ليقتصر على فصل الفراغات والحجر عن بعضها البعض ، بل يبدو ان له دور ذو عمق اخر في مشاهد حياة الشخصية اليابانية بماضيها وحاضرها معا.وهنا نجد تفردالصانع الياباني وتميزه ببساطة التصميم وبراعة استخدام الفراغات المكانية.

فنجد الـ”شوجيshoji” يقوم من خلال اوراق “الوشي” المغطاة به بحجب وتخفيض درجة الضوء المتسللة الى حجرات المنزل بدرجة اقل من ضوء الأشعة المباشر مما يجعلها متناسبة مع احتياجات الانسان دون ان تسبب له ازعاج.

هذه الدرجة الخافتة من الضوء التي تعبر من خلال الـ شوجي والتي تجدها صانعة بذلك جو يبعث على السكنية والاسترخاء ،جعلتني اتفكر في مدى علاقة ذلك بذوق الشخصية اليابانية في تعاملها مع مساحات الظل والضوء ومدى ارتباط ذلك بكيفية تعاملها مع أمورا الحياة المختلفة . فحين تنظر الى لوحات الفنان الايطالي المعروف فان جوخ ، تجدها تتسم بطابعها الغربي الذي يركز على إبراز التباين في م

ساحات الظل والضوء المستخدمة باللوحة المرسومة، في المقابل حين تنظر الى اللوحات اليابانية المرسومة بطريقة الـ ” nihonga ” او ما يعرف بفن الرسم الياباني ،فلن تجد هذا التباين في مساحات الظل والضوء المستخدم في ألوان اللوحة حتى في لوحات التي تتميز بطابعها . ومن ذلك وعلى ما يبدو ان الشخصية اليابانية لا تميل في طابعها الثقافي الى ابراز التباين الشديد في مساحات الضوء والظل، بل تميل الى تفضيل الضوء الخافت والتدرج في الألوان ، وهنا تجد فيه ملمسا جماليا مختلفا عن سمات الفن الغربي الذي يركز على إبراز التباين كعنصر من عناصر الجمال في بناء اللوحة الفنية .ويعُيد الباحثون هذا الطابع الجمالي في الشخصية اليابانية الى تأثيرالطبيعة وتنوع الفصول بألوانها وأشكالها التدريجية في اللون والمظهر ،مما جعل الانسان في اليابان يميل الى تفضيل نمط “التدرج عن التباين”، وذلك ليس فقط في الفنون والرسم فقط فحسب ، بل أيضا يمتد اثره الى سمات الفكر والشخصية معا. ونستطيع ان نلمس ذلك ونراه في عدم الوضوح المتباين في التعبير عن الاّراء والميل دائما الى اللون الرمادي في طرح الأفكار والتواصل مع الآخرين .

أيضا نجد في اليابان مساحة كبيرة من الاهتمام والحب تجاه فن الرسم بالحبر الصيني او بالفحم المعروف باسم ” suibokuga “وأسلوبها المتفرد في استخدامات مساحات الظل والضوء والفراغات في التعبير الفني مما جعل لها مذاق خاص لدى الشخصية اليابانية، ومن خلال كل ذلك أصبحت لدى الشخصية اليابانية تفردا خاصا في تحسس فوارق الألوان بدرجة بعيدة الاختلاف عن غيرها من الثقافات الاخرى حتى عن حضارة الثقافة الصينية التي كان لها دور كبير في ادخال العديد من الفنون اليها.

أمر اخر لفت انتباهى من خلال معايشتي للشخصية اليابان على مدى طويل ، وهو كثرة استخدام اللون الأسود والأبيض واللون الرمادي …وعلى الأخص اللون الرمادي في الكثير من مشاهد الحياة المختلفة وخاصة الملابس، فحين تسير في الطرقات في اليابان تلحظ عدم كثرة استخدام ما يعرف بـ”الألوان الأولية اوالاساسية (الأحمر والازرق والأخضر ) ” ، وذلك على عكس المجتمع الغربي والذي تجد به انتشار ملحوظ لاستخدام الألوان الاساسية مثل الأحمروالأصفر في الكثير من مشاهد الحياة المختلفة وخاصة الملابس ، فحتى كبار السن منهم تجده لا يتردد في ارتداء قميص آصفر او سروال احمر وذلك على خلاف الشخصية اليابانية التي تتخذ من التدرج اللوني طابعا مفضلا لها عن التباين الواضح والقوي ليس عن ارتداء الملابس فقط فحسب ، بل تجد ذلك ايضا في الكثير من مشاهد تعامل الشخصية اليابانية مع من حولها بالمحيط الخارجي وكيفية تفاعلها معه بالمجتمع .

وفي النهاية لا يمكنك عشق شخص دون معرفته ،لذا فان كنّا من عاشيقين اليابان فعلينا ان نعرفه معرفة جيدة حتى يتسنى لنا عشقه على قدر حقه وطبيعته.لكن مع كل ذلك يظل اللون الابيض هو اللون المفضل للشخصية اليابانية فهو اللون الاقرب للطبيعة والمعبر عن صفاء السماء ونقاء النفس والذات حسب العقيدة الدينية التاريخية لليابان. فما زال راهب المعبد يرتدي اللباس الأبيض عند اداء الطقوس الدينية بمعابد الدينية الشنتاوية ومازال تستخدم الأخشاب البيضاء الغير مطلة بلون او في بناء أبنية المعابد.

لكن اذا اردنا اختيار لون معبر عن اليابان فهنا يصبح اللون النيلي المعروف في اللغة اليابانية باسم “ai” هو اللون الاكثر تعبيرا عن اليابان وحسها الجمالي في عالم الالوان، حيث كان يستخدمه اليابانيون في اخر فترات التاريخ الياباني القديم “عصر ادو”(-1603-1868م.)كلون اساسي في الكثير من مشاهد الحياة المختلفة مثل صبغ الملابس او أدوات الحياة المختلفة، وهذا ما يجعلنا نراه حتى يومنا هذا في الكثير من المصنوعات الخزفية والمنتجات التقليدية اليابانية وهو المعروف عالميا باسم Japanese Blue

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *