كيف نحلم باليابان ! … اليابانيون.. كيف ولماذا؟ الجزء الرابع
ماذا تعني تجربة العيش في بلاد المهجر أكثر من 20 عاماً متواصلة؟ 20 عاماً تستيقظ وتعيش على لغة غير لغتك، تفكر في مشاكلها وتتفاعل مع مجتمعها وتدرس في جامعاتها وتتنزه في حدائقها وتستمتع بنسيم هوائها وتضحك على فقرات برامج تلفازها وتحزن لهمومها ومشاكلها وتتفاعل مع قضاياها وتفعل كل ما يجعلك تعتقد أنك واحد من أهلها.
لكنك بين لحظة وأخرى، تجد أمامك الواقع الذي يذكرك دائماً بحقيقة ثابتة لا محالة؛ وهي أنك لست واحداً من أهل هذا البلد أو فرداً منهم، وأنهم هم أيضاً لم ولن يعتبروك واحداً منهم.
24 عاماً وأمواج الحياة تعلو بك وتخفض بين مشاهدها المتعددة والمتنوعة؛ تارة تجعلك تعتليها منتصراً وتارة ترميك غارقاً منكسراً بين أمواجها. فتجد نفسك عالقاً بين واقع العيش في المهجر وحلم العودة إلى أدراج الوطن الذي طالما كنت تسعى من أجل الوصول إلى شواطئه؛ أملاً في الراحة بين الأهل والأحبة، لكنك هنا تجد السؤال يكرر نفسه مجدداً: متى سيقف قطار الأماني؟
حين يستمع الناس إلى قصتك وتجربتك في اليابان، تجدهم مفتونين منبهرين بفصولها وأحداثها التي تجعلهم يثنون عليها كـ”قصة نجاح”، على الرغم من أن أحداث القصة ما زالت مستمرة ولم تنتهِ بعدُ، ولم لا! فالقصة مثيرة وجذابة في فصولها وأحداثها.
فحين تجد شاباً عربياً مصرياً لا يملك سوى 800 دولار وتذكرة طيران (ذهاب فقط)، ثم يأتي إلى اليابان ويلتحق بالدراسة بجامعاتها ويحصل على أرفع شهادتها، متكبداً مشاقّ الحياة المادية والنفسية من البعد عن الأهل والأحباب وتدبير مصاريف الحياة والدراسة وغيرها بنفسه دون الاعتماد على الآخرين، ثم يصبح بعون الله وفضله شخصية تحظى باحترام الآخرين وثقتهم، معبراً بذلك عن نموذج لتجربة إنسانية ناجحة في التواصل بين ثقافتين طالما كانتا بعيدتين كل البعد بعضهما عن بعض؛ ألا وهما: العالم العربي، واليابان.
قد تعكس هذه الصورة، بتكوينها الإجمالي هذا، نموذجاً جذاباً لتجربة فريدة في حياة المهجر، لكنك حين تتأمل أجزاء الصورة بإمعان، فسوف تجد فيها الكثير من الثقوب التي قد لا يلحظها الكثيرون ممن يرونها.
كنت أريد أن أحتوي كل شيء وأدرك كل شيء، كنت أريد أن أصبح واحداً من أهلها، أتحدث بها وعنها وأعبر بلغتها وأشعر بحسها، لكنني بين الحين والآخر كنت أسأل نفسي أحياناً: لِم كل هذا؟! ومن أجل ماذا؟!
كان الحلم دائماً مرتبطاً بتحصيل المعرفة وتحقيق التقدم والتميز في فهم الآخر، وأقصد بالآخر اليابان واليابانيين، لكن ما كان غريباً حتى بالنسبة لي، هو أنني لم أكن أكترث أو أولي اهتماماً كبيراً بشأن الحصول على وظيفة أو بقضية الاستقرار المادي، إلا في السنوات الأخيرة من تجربتي الطويلة هذه.
والآن وبعد أن أصبح لي منبر يجعلني قادراً على أن أحقق من خلاله تفاعلاً بين جذور هويتي العربية وثقافتي اليابانية- أجد نفسي واقفاً على مسافة متوازية بين الاثنتين كلتيهما، لكن المثير في الأمر أن تجد جميع الأطراف يعتبرونك غريباً عنهم، سواء إن كان هذا من طرف ياباني أو حتى من طرف عربي!
وبين مساحات الضوء والظل المتباينة، تجد الحقيقة التي نحاول دائماً الهروب منها والتحايل عليها مراراً وتكراراً، بكلمات وشعارات رنانة مثل: “مجتمع العالم الواحد”، و”عالم بلا حدود ودون فوارق عرقية”، “عالم تداخل الثقافات والحضارات”، تجدها قائمة بواقعها الذي يؤكد لنا أن أغلبنا لا يستطيع رؤية الآخر إلا من خلال منظاره الجغرافي أحادي الأبعاد!
فكيف نرى الآخر وكيف يتراءى لنا؟ سؤال وتساؤل جدير بالطرح والتفكر في زمن بات فيه فهم الآخر أمراً صعب المراد عتي المنال.
منذ عدة أعوام وبعد حصولي على الجنسية اليابانية، وبواقع عملي الذي يتطلب السفر إلى بلدان شتى للمشاركة في مناسبات وأحداث علمية وثقافية مُختلفة، كنت كلما مررت بمطار ما من مطارات بلدان العالم المختلفة أجد الكثير من الناس يسألونني وعلى وجوههم علامات الدهشة والحيرة معاً: “كيف يكون هذا؟!”.
وهنا تكون إجابتي دائماً بكلمة: “ولم لا؟!”. وهذا الذي كنت -وما زلت- أُسأل عنه، وبعبارة أخرى يتساءل عنه الآخرون: كيف أكون يابانياً بملامحي هذه؟!
والذي أجيب عنه هو: “ولم لا أكون يابانياً بملامحي هذه.. وما المانع؟!”.

وعلى هذا النحو، أجد نفسي بين قناعة ذاتية بوجود ياباني داخل نفسي ورفض اجتماعي لهذا الوجود من قِبل الآخرين.
ويتكرر الحدث مراراً وتكراراً خلال مشاهد الحياة المختلفة، فما كان مني إلا أنني قررت أن أجيب بكذبة، هي في واقعها حقيقة، فبدأت أجيب بأنني: “إنني هاف”. فإذا برد فعل الآخرين يتغير مرحباً بهذا النتاج الفريد السلالة من نوعه، معبراً عن إعجابه بهذا الدمج الثقافي المتباعد الأطراف.
وقد تكون كلمة “هاف ” هذه كلمة كاذبة في معناها، لكنها بالنسبة لي صادقة في محفاها. فهذا العام هو العام الحادي والعشرون لي على إقامتي في اليابان، وبهذا أكون قد قضيت نصف عمري في اليابان وأصبحت بواقع السنين المنقضية ورغم أنف الآخرين “هافاً يابانياً”.
الطريف والمثير في الأمر، أن الجانب العربي، المتمثل فيمن حولك من الذين يعرفونك أو حتى من الذين لا يعرفونك، تجدهم لا يتقبلون فكرة تحولك إلى “شخص ياباني”، وذلك بواقع اختلاف الملامح والشكل المعتاد، كما سوف تجد أيضاً رد الفعل نفسه من قِبل الجانب الياباني الذي يرفض الفكرة للسبب ذاته، فقاسم الرفض هنا جغرافي بحت نابع من معيار الحكم على ملامح الشكل والوجه بشكل خاص.
والأجدر بالذكر هنا، أن ما لا يعرفه الكثيرون منا عن العقلية اليابانية، هو ما لديها من ثوابت ترتكز عليها في اتخاذ قرار اعتبار هذا الشخص يابانياً أو غير ياباني، ومن أهم هذه المعايير التي ترتكز عليها الشخصية اليابانية في اتخاذ قرارها هذا، هو معيار الشكل وملامح الوجه، فالياباني يعتبِر ما يُعرفون بـ”الهاف” ليسوا يابانيين بشكل كامل المعنى، وذلك لاعتبارات اختلاف الشكل وملامح الوجه المتوارثة، وأيضاً الأسماء على ما هو متعارف عليه بين أبناء الجنس الياباني الواحد.
وعلى الجانب الآخر من تركيبة هذه العقلية تجد النقيض تماماً، فتجده ينظر إلى مَن له أسماء وملامح يابانية من أبناء الأجناس الأخرى -أمثال الأميركي والبرازيلي وغيرهما ممن وُلدوا وتربوا خارج اليابان- على أنهم أناس ينتمون إلى أبناء العرق الياباني.
بل وتذهب بهم المشاعر إلى أكثر من ذلك؛ فتجدهم يعتبرونهم في كثير من الأحوال -في قرارة أنفسهم- “يابانيي الأصل وأميركيي المنشأ”، حتى وإن كانوا من أبناء الجيل الثالث أو الرابع الذين يكونون في أغلب الأحوال ممن لم يقدر لهم أن يعرفوا اليابان ولَم يعيشوا فيها من قبل.
أما على الجانب الآخر في بلاد العرب، فهناك تجد أغلب الناس على اختلاف أشكالها وألوانها ترى الآخر بعين الأصل والعرق، لا سيما ملامح الوجه والشكل؛ بل ولون البشرة في كثير من الأحيان من مشاهد التواصل مع الآخر في الحياة اليومية بمجتمعاتنا، فتجده يعتبر من له ملامح آسيوية أو من له ملامح إفريقية معززة بلون البشرة السوداء، ليس عربياً أصيلاً، والأمثال التي على ذلك كثيرة ومتعددة.
فكيف نرى الآخر وكيف يتراءى لنا؟ سؤال وتساؤل جدير بالطرح والتفكر في زمن بات فيه فهم الآخر أمراً صعب المراد عتيَّ المنال.
وللحديث بقية….